الفطر "تحت القبعة".. تمثيل للحياة والوباء

الأرض بنباتاتها وألوانها وثمار "الفطر" المنبثق من أعماقها، الكتب والألوان أكانت تراجيدية أم حيوية، تلك عناصر اشتغلت عليها تشكيلياً الفنانة المغربية مونيا أبو طالب، في معرضها "تحت القبعة"، الذي تستضيفه صالة موفنبيك في مراكش.

انبثقت فكرة المعرض إذاً، من علاقة وباء كورونا والكارثة والدمار بالحياة، ولطالما اشتغل الأدب والفن والفلسفة على الكارثة، تجاوزاً للمأساة، وتذكيراً بالخطر والخراب، كفنّ للحياة وموضوع للتشكيل.

التلقي الجمالي للوباء 

"الشرق" زارت المعرض، وحاورت الفنانة عن موضوعها "الفطر" تحديداً، الذي تجلّى في اللوحات كلها، فقالت:"كنت أفكّر في أثناء أزمة فيروس كورونا، بالعلاقة ما بين شكل الفيروس والفطر، والخلفية المشتركة لكليهما". 

أضافت: "ثمّة تشابه واضح شكلياً، أما اعتبارياً فكلاهما يسبّب الموت؛ الفطر السام نتاج الأرض والحياة، وفيروس كورونا، نتاج المرض". 

الفنانة الحائزة على جائزة "خوسي دياس فونتيس" عام 2017 في بينالي "ساريا" التاسع في إسبانيا تقول: "اشتغلت على فكرة المعرض نحو 4 سنوات، متأملة في الكارثة والحياة؛ قرأت كتباً كثيرة في الأحياء والنباتات والشأن الوبائي".  

يبدو الفطر بشكله المميّز، كقبّعة من الأعلى، من هنا جاءت التسمية "تحت القبعة"، وساقه الرشيق الطويل في بعض أنواعه، سائداً في جلّ لوحات المعرض، الذي يعتقد المتفرّج، بأنه ذو موضوع واحد، هو الفطر وكورونا.

 لكن الاشتغال الجمالي يشير إلى موضوع واحد مُتعدّد، فهناك ترحيل للفطر من الأرض والزراعة، من عالم النباتات، إلى عالم الكتب والأفكار والأوبئة.

الفطر والكتب والأفكار

الاشتغال على  النباتات والأحياء البحرية والطيور، معروف في تاريخ الفن، مثل الفنان السوري يوسف عبدلكي وموضوع الأسماك مثلاً، والفنان خالد البكاي والنباتات، والعراقي محمد صالح  والزهور، والفنان عاصم حافظ  والفواكه.

 وقبل هؤلاء جميعاً، اهتّم بعناية بالغة الفنان الهولندي كورناي، مِن مؤسسي حركة "كوبرا" الفنية الهولندية، بموضوع العصافير والأشجار والزهور والأفاعي.

  كما اشتغل بعض الفنانين على موضوع الكتب شكلياً ومعنوياً "الكتب الفنية"، وهو موضوع جمالي شائع في التراث العربي، من ناحية الإخراج والتذهيب، بل وحتى الكولاج.

تقول الفنانة عن اشتغالها على الكتب والفطر: "كنت في سفري أرى كتباً قديمة في لغات عدّة، فأفكر في مكانها ومصيرها، المكتبة أو الإتلاف". 

تتابع: "التحلّل العضوي أو التلف، يجمع ما بين الفطر والكتب أيضاً، إذ تتلف الكتب جراء الرطوبة والعثّ والعبث بها، وهذا صير الفطر أيضاً. أردت جعل مصيرهما مشتركاً تشكيلياً، بعد المصير العضوي".

يقول الفيلسوف الرواقي سينيكا: "لم تخلق الطبيعة مكاناً يتّسم بالثبات. لا شيء مستقرّ، مصائر البشر ومصائر المدن في دوّامة". وعليه، فالبشر في تواشج، وفي علاقة متينة بمصائر الكتب والنباتات والكائنات البحرية. 

الكتب غذاء كالفطر

ثمة مَن يقول إن ما يهدّد الكتب، هو الرطوبة، والاختناق، وعدم الانتشار. وكثيراً ما وصفت الكتب بالغذاء مِثل الفطر، سيما وهناك نقطة التقاء ما بينهما وهو الفم، إذ للكتب أفواه تسرد وتروي وتأكل، فضلاً عن علاقتها بالبشر والطعام والحياة. تجد الأشكال والأفكار مصائرها في التشابه وفي المعاني.

لم تستغن الفنانة عن تجربتها  في معرضها السابق "جذور"، وظلّت ملتزمة بالطبيعية، كعقد إنساني وتشكيلي. وهكذا، وظّفت الفطر مع عالم الجذور، وكأنّ اللوحة  ذات قسمين:

الأسفل عالم الجذور وما يعني من تغذية الحياة والكتب والأفكار في حياة الباطن، بينما يسود الفطر في الأعلى برشاقة هيئته وحضوره البارز، على الرغم من صغر حجمه؛ إخراج كأنه صورة فوتوغرافية ذات حضور تشكيلي، متقاطع مع فيروس كورونا والوباء والكارثة والكتب. 

الطبيعة والعقد المشترك 

تناولت الفنانة موضوع الأرض العضوية، والأرض الطبيعة باعتبارها وجوداً فيزيقياً مستقلاً بذاته، مولداً نفسه من خلال عناصر الجذور والكائنات الحيّة، التي تمدّ الإنسان بالغذاء والديمومة.

 تسهم هكذا بنمو الأفكار والمفاهيم، ولكن نحن مَن يقوم بذلك تعاوناً واستفادة من إمكانيات الطبيعة الهائلة. وما الكوارث والأوبئة إلا تنفيس وتعبير عن غضبها، جرّاء العبث بها من قبل الشركات والبشر، هذا النقاش، اشتدّ في أثناء أزمة كورونا.

يقول ميشيل سير في كتابه "العقد الطبيعي"، بتسيير الوضع القانوني للطبيعة، وذلك  في خلق عقد ما بينها والإنسان، الذي يجب أن ينتمي إليها، ما دام ورث الطبيعة جرّاء التقاسم".

 يضيف: "ليست الطبيعة شخصاً، وليس لديها يد كي توقّع العقد معها. لكن جان جاك روسو، حين اقترح "العقد الاجتماعي" لم ينتظر أن يوقّعه أحد ما. التوقيع يتمّ عبر العيش المشترك".

جينالوجيا الطبيعة 

يقول الباحث الجمالي المغربي حسن لغدش لـ"الشرق": نجد الطبيعة في هذا المعرض، وكذلك في سابقه بوصفها علاقة الإنسان الجينالوجية مع ذاته، كالتربية والهوية والأصل، فضلاً عن سيمياء التجذّر في معنى الاعتراف الضمني، لبناء مقاومة إزاء تحديات العصر الراهن". 

يضيف: "من هنا جاء اهتمام الفنانة بالفطر، ككائن مزدوج يحمل الحياة والموت في الآن ذاته، في تناص بصري سامٍ  مع الفن "ساكورا الياباني"، أي لوحة اللصق.

ألوان السعادة

تظهر الألوان الترابية طاغية على مسند اللوحة، كمحاكاة للتربة وللجذور، في إشاعة لعالَم اللوحة الكلي، وحتى في الاشتغال اللوني على الكتب، التي اختيرت ألوانها بعناية في محاكاة للتربة، محافظةً على العالم التشكيلي كفكرة من ناحية الموضوع  الفطر- كورونا، واللون البني وتدرّجاته- الأرض الطبيعة.

 في بعض اللوحات، ثمّة خروج على هذا الاتفاق، باستعمال ألوان السعادة، ألوان المستقبل الأخضر والأصفر، على الرغم من الجائحة والمرض. جاء هذا الاختلاف اللوني، من ضرورة الخروج على النمطية، فأعطى تنوّعاً شكلياً غنياً وعميقاً، توسيعاً لمفهوم التربة، وجعله ضمن الطبيعة المعطاءة لكل شيء. 

مشروع بصري وثقافي

 تذكر الفنانة الفرنسية وأمينة معارض بينالي "ساريا" آن ميشيل فريلي: "تتطوّر موضوعات الفنانة مونيا أبو طالب باستمرار. لوحاتها التجريدية عبارة عن صور مستقلة لا تشير إلى أي شيء آخر غير ذاتها، فهي تشبه الأيقونات التي تُظهر وجود المحتوى عوض تمثيله".

 وتعتبر أن الفنانة "تكشف عن وجود حقائق غير مرئية وغير معروفة، تتعلق بالعلاقات الإنسانية المركّبة: الفرح، الصداقة، الحب، السعادة، الأمل، الاختلاف، التسامح، العاطفة، التنوّع".

لا نرى من العالم شيئاً

لا يكتمل الموضوع الفني من دون تصوّر فلسفي ودرامي إبداعي، يجعل الفن خطاباً تشكيلياً بصرياً ومعرفياً؛ هكذا، يتمّ السير بالنباتات إلى مفهوم الطبيعة الأوسع والأشمل، فتكون الوردة والفطر والرائحة، ضمن الأفكار المفاهيم التي تسهم بتنوّع الأشكال والمواد ومساند اللوحات.

 يبدو من إخراج المعرض بصرياً وفكرياً، اهتمام الفنانة بالمعرفة والبحث، والمحاولة على الاشتغال على معارضها كمشروعات فنية ثقافية.

 تقول عن معرضها السابق "ما وراء المظاهر" (2018): "أدركت تدريجياً، أننا لا نرى من العالم شيئاً، أو حتى القليل منه. أعتقد أن الناس يعيشون في نوع من الوعي الجمعي، إذ يعتقدون أن المظهر هو حقيقة. نحن نرى فقط ما نريد رؤيته. حاولتُ من خلال اللوحات الردّ على هذه الازدواجية ما بين المظهر والواقع."

موقع الشرق نيوز

 

30 May 2024