البطاقة البيضاء / محمدن سيدي (بدنَّ)
من بداية شهر يناير 2007 ، يوما مشهوداً كنت فيه من بين آلاف المواطنين الذين تنادوا منذ الصباح الباكر و بكل حماس إلى قصر المؤتمرات لحضور اجتماع يعقده رئيس المجلس العسكري رئيس الدولة آنذاك السيد اعلِ بن محمد فال رحمه الله. كان الموضوع هو إعطاءُ الإنطلاقة المباركة لحملة التعبئة الشاملة للإنتخابات الرئاسية المقررة يوم 11مارس 2007 م .
كنت يومذاك مدير التشريع والترجمة والتوثيق بوزارة الداخلية والمواصلات، عضوا في اللجنة الفنية التابعة للجنة الوزارية المكلفة بالمرحلة الانتقالية الأولى 2005-2006م ، وبموجب ذلك رئيس اللجنة الفرعية المكلفة بإنشاء اللجنة الوطنية المستقلة للإنتخابات.أما اللجنة الفنية فكان يرأسها البروفسورْ أحمد سالم بن ببوط رحمه الله مستشار الوزير الأول وتضم حوالي عشرين (20) إطارا يمثلون القطاعات الوزارية المختلفة الممثلة في اللجنة الوزارية.وأما اللجنة الوزارية فكان يرأسها بكل جدارة السيد حبيب بن همَّتْ الوزير الأمين العام لرئاسة الجمهورية وتضم ثمانية (8) وزراء من ضمنهم معالي وزير الداخلية آنذاك السيد محمد أحمد بن محمد الأمين ..
كان الاجتماع حاشدا بقدر ما كان الاجماع واسعا حول المجلس العسكري ورئيسه المرحوم اعل بن محمد فال في تلك المرحلة الانتقالية التي قرر فيها القادة الجدد أن لا يخوض أيٌّ منهمْ مغامرة الترشح للانتخابات الرئاسية .. بل أكثر من ذلك سرعان ما اختزلوا الفترة الانتقالية في ثمانية عشر ( 18) شهرا بدلا من الأربعة وعشرين (24) شهرا المُعلنة يوم الانقلاب على الرئيس معاويه بن سيد أحمد بن الطايع بتاريخ ... أغشتْ 2005م.
استمر الاجتماع ساعاتٍ طوالاً في ذلك اليوم من صباح ذلك اليوم الشتوي الخاص ، حاول خلالهما فخامة رئيس الدولة أن يشرح جاهداً للنخبة السياسية الحاضرة و بلغته الحسانية الطريفة رؤيةً قانونية خاصة علِمنا في ما بعد أنه أقنعه بها بعضُ كبار القانونيين، ومَفادُها أن التصويت بالبطاقة البيضاء المجسِّدَةِ لخيار الحياد لدى الناخب في الانتخابات الرئاسية المعلنة ، إذا طغى على بقية الأصوات الممنوحة للمترشحين ، فإن ذلك قد يؤدِّي إلى إلغاء العملية الانتخابية برمتها وعودة المسلسل إلى المربّع الأول! ولكن الرئيس لم يفصح آنذاك عن النتيجة المُحتملة المنشودة من وراء ذلك وهي تمديدُ المرحلة الانتقالية المُقلصة! ويبدو أنّ تلك الفكرة التي استغربها المواطنون ، فاجأت كذلك بعض أعضاء المجلس العسكري إذ لم يجرِ التشاور معهم عليها سابقاً كما لم تصبحْ محلّ إجماعٍ بينهم لاحقاً. وأخبرني الأخ حبيب بن همّت حفظه الله بعد ذلك أنه كان أكبر المتفاجئين والمُحرجين على حد سواءٍ ، وخاصة أمام عجزه المطلق عن تفسير ذلك الموقف المفاجئ للسفراء والهيئات الدولية المتعاقبة على الرئاسة. وقال إنه لم يتردّدْ لحظة واحدة في التعبير للسيد الرئيس عن استغرابه لذلك الإعلان. ولكن كل تلك التداعيات العسكرية و الدبلوماسية التي أعقبتْ الخطاب لم تتسربْ إلى سواد الشعب وأنا من صميم تلك الفئة .. مفاجأتي الوحيدة أنني اتصل بي حوالي منتصف الليل من الليلة الموالية هاتفيا الأمين العام لوزارة الداخلية و المواصلات الأخ ماسينا ممدو وقال لي :" انتبهْ لهاتفك .. سيتصل بك عبره معالي الوزير الأول !".
لم يطل الانتظار وإنما رنّ الهاتف مباشرةً فإذا بالمتحدث يقدم لي نفسه على أنه دركيٌّ سرعان ما ربط الاتصال بيني وبين معالي الوزير الأول السيد سيدي محمد ولد بوبكر ! وتضاعفت مفاجأتي إذ لم يزد معالي الوزير الأول بعد مراسيم السلام الاعتيادية أن قال لي بصوته الهادئ :" التحقْ فورا بالاستاذ أحمد سالم بن ببوط فإنه ينتظرك في منزله !وفي منزل أستاذي ببوط على شارع " الأليزي " بلغة الوسطاء ، كانت المفاجأة أكثر ! دخلتُ على شيخي الاستاذ ببوط فإذا به في مكتبه المنزلي المعتاد أمام جهاز الكمبيوتر وقد خلع الدراعة واقتصر في ملبسه على سراويلَ و قميص بكم قصير ولم يزد على كلمات له محدودة تشفعتْها بعض الإشارات الخفيفة التي عادة ما تسعفه في توصيل فكرته إذ كان مثالا لؤلائك العباقرة الذين لا يكادون يبينون عند الكلام و لكنهم إذا كتبوا يأتون بالعجب العُجاب .وقد شهد الأستاذ الفرنسي فيديلْ للأستاذ ببوط في مقدمته الرائعة لكتابه المشهور، بروعة الأسلوب باللغة الفرنسية ، وما كنت أعلم أنه يحرر كذلك باللغة العربية إلا عندما عملنا لاحقا معاً في اللجنة الوطنية المستقلة للانتخابات 2012 - 2015م.
المهم أنني فهمتُ من ذلك أنني عليَّ أن أجلس في مكان معين في انتظار فراغه من إنجاز نص قانوني يعكف على إعداده بصورة مستعجلة! و واصل الإستاذ تحرياته الدقيقة متنقلا بين مجموعة من الكتب الفرنسية والانگليزية المتناثرة على الأرض بصورة أقرب للفوضوية ، وذلك على أنغام أغنية عربية ثائرة متواصلة لم تزل صاحبتها تتساءلُ بحرقة وتلهُّف عن الشعب العربي، وعن الغضب العربي، والدم العربي، والشرف العربي! وتتخلل تلك التساؤلات اللازمة المشهورة : وين .. وين الملايين ؟!وعلمتُ في ما بعد أنها أغنية وطنية تحكي معاناة الفلسطينيين مع القوات الإسرائيلية، كتبها الشاعر الليبي علي الكيلاني وقام بتلحينها الملحن الليبي عبد الله محمد منصور وقامت بأدائها المطربة اللبنانية جوليا بطرس لأول مرة 1990 ضمن مجموعة قبل أن تنفرد بغنائها بعد ذلك ! المهم أنني أشك في أن تكون تلك الأنغام الملتهبة حماسا هي التي استلهم منها الاستاذ ببوط ذلك النص الاجتهاديّ الهادئَ الذي لم أتبين حقيقة أمره إلاّ ضحى الغدِ.
اكتمل النص وهنا من الليل ودفعه إلي الأستاذ مباشرة بغية ترجمته إلى اللغة العربية فامتثلتُ أمره طائعاً .. وفي وقت المستغفرين بالأسحار كفّت المطربة عن التساؤل دون العثور على ضالتها المنشودة ، و أغلق الأستاذ جهاز الكمبيوتر و رتب أوراقه بصورة خاطفة وهو يمدُّ يده لإطفاء المصابيح في مكتبه وودّعني قائلا :" موعدنا الثامنة إن شاء الله في مكتبي بمقرّ الوزارة الأولى "!عدت إلى المنزل وما إخالني نمتُ بقيةَ تلك الليلة وما أرقني الإعياء ليلتئذ بقدر ما أضناني التفكير في الظروف الاستعجالية التي تكتنف إنجاز هذا النص ! وفي الصباح الباكر كنت في الموعد المحَدَّد، فإذا بالاستاذ ببوط واقف عند عتبة باب مكتبه ينتظرني، وبإشارة خاطفة طلب مني مرافقته فسرت خلفَه وما هي إلا خطوات محدودة حتى فُتِح أمامنا أحد الأبواب الموصدة، فإذا نحن وجهاً لوجه أمام معالي الوزير الأول سيدي محمد ولد بوبكر ! وبعد تبادل خاطف حول الموضوع ، فوجئتُ بالوزير الأول يلتفتُ إليَّ سائلًا : وأنتمْ ما رأيُكم في الموضوع - وهو هنا يعني بطبيعة الحال الوزارة المكلفة بالداخلية ممثّلة في المدير المكلّف
بالتشريع ؟ وهنا أربكني السؤال إذ لم أكن أتوقعه ، فأجبتُ بسذاجة الغمر :" معالي الوزير الأول ، إن الأستاذ ببوط أوسع نظرا مني، ولكنني لم أستسغ بعدُ كيف تعتبر البطاقة البيضاء التي تجسّد خيارَ الحيَّاد لدى الناخب، صوتا لاغيا في الانتخابات الرئاسية ؟ و هممتُ بأن أسترسل في الكلام فقاطعني البروفسور بعنف قائلا : ذاك ما يعنيك !! فابتسمَ معالي الوزير الأول دون تعليق وأومأ إلى مستشاره إيماءةً دعاني بعدها الاستاذ إلى مرافقته من جديد ولكن هذه المرة في سيارته وهو فيها على مقعد القيادة يسير بنا إلى وجهة أمضيتُ بُرهة أخالُها مجهولةً حتى وصلنا فجأةً بوابة القصر الرئاسي ففُتِح أمامنا الباب على مصراعيْه !وبسُرعةٍ صعدنا إلى المكاتب الرئاسية وهنالك سرعان ما استقبلتنا بعض المسؤولين في التشريفات بالسرعة التي دعونا فيها لولوج مكتب هنالك فاخر فإذا نحن وجها لوجهٍ أمام فخامة رئيس المجلس العسكري رئيس الدولة العقيد المرحوم اعلِ ولد محمد فال، و قد سبقنا إليه معالي الوزير الأول سيدي محمد ولد بوبكر وإلى جانبهما على التوالي : الوزير الأمين العام لرئاسة الجمهورية السيد حبيب ولد همَّت و مدير ديوان رئيس الجمهورية السيد محمد الأمين بن داهي . وبعد تبادل التحايا بدأ الاجتماع ، إذْ التفتَ معالي الوزير الأول إلى فخامة الرئيس قائلا بالحسانية : " السيد الرئيس ، الخلطَ أراهم عدلُ شِ لاهِ يعرضوه أعليكم". و بسرعةٍ أشار إلى الاستاذ ببوط بتقديم عرضه .. و هنا تناول الكلام الأستاذ أحمد سالم ولد ببوط قائلاً بالحسانية :" ألاَّ عدلنَ شِ هون ظاهر انَّ عنُّ امسوِّ المشكلة! وهنا تدخل فخامة رئيس الدولة سائلًا بالحسانية كذلك :" هيَّ أثرهَ مشكلة ؟! وكان ذلك السؤال محرجا للاستاذ ببوط فأجاب بأسلوبه المعتاد الذي هو مزيج من الألفاظ و الاشارات ولكن إشاراته هذه المرة كانت أكثر من ألفاظه ! فتراجع في جوابه ذاك وبحذر كبير عن لفظ "المشكل" و لكنه احتفظ جازما بمضمون الخطاب ! و من هنا خيَّم على الاجتماع جوٌّ رهيب تمثل في الصمتِ المطبق.وحده الأستاذ ببوط طفق يشرح أن هذا الاجتهاد القانوني الذي ألجأتهُ الضرورة إليه يتمثل في تغيير فقرة واحدة من المرسوم المتعلق بانتخاب رئيس الجمهورية، بحيث يصبح الصوتُ المحايدُ الذي تجسده البطاقة البيضاء لاغيا. وبذلك تنتفي من الأساس فكرة احتمال إطغاء الأصوات الحيادية على غيرها من الأصوات في الانتخابات الرئاسية المرتقبة !! وباكتمال الفكرة همَّ مدير الديوان بالتعليقِ ولكن الاستاذ ببوط قاطعه بانفعال تماما كما فعل بي من قبلُ في مكتب معالي الوزير الأول ..قلتُ : لعلّ معالي مدير الديوان - وهو من كبار القانونيين في البلاد - كان يريد أن يشرح للجماعة كما شرح لي أول أمسِ أن الرأيَ العام تلقف تلك الفكرة خطأً يومذاك على أنها ذاتُ شحنة سياسية بدل مدلولها الفني الصرف ! وأعود فأقول إن عرض الأستاذ ببوط كان مقتضبا و أن التعليقات عليه لم تكثر و أن فخامة رئيس الدولة قد اختتم الاجتماع بإصداره الأمر الصريح بأن يُصاغَ المقترح في صورة مرسوم يعرض بسرعة على مجلس الوزراء للمصادقة عليه في دورة استثنائية عاجلة !وهكذا حصل فصدر المرسوم المرفقة صورة منه ، رقم 2007- 045 لصادر بتاريخ 8 فبراير 2007 الذي يلغي ويحل محلّ ترتيبات المادة 23 من المرسوم رقم 1991- 140 الصادر بتاريخ 13 نوفمبر 1991 المحدد لإجراءات الحملة الانتخابية وعمليات التصويت بالنسبة للإنتخابات الرئاسية.ويتضمن هذا المرسوم مادة اضطُررتُ إلى ترجمتها لأن المرسوم ليس بحوزتي ابّان تحرير هذه التدوينة : المادة 23 (جديدة) : "إن الترتيبات المتعلقة بفرز النتائج والمنصوص عليها في المواد من 26 إلى 35 و 37 من المرسوم 86 - 130 الصادر بتاريخ 13 أغشت 1986 المحدد لإجراءات الحملة الانتخابية وعمليات الاقتراع تبقى نافذةً.
بيدَ أنهُ بالنسبة للإنتخابات الرئاسية، فإن مكتب التصويت يحدد عدد الأصوات المعبر عنها le suffrage exprimé بأن يخصم من العدد الإجمالي للبطاقات الموجودة في الصندوق les bulletins trouvés dans l’urne ، عددَ الأصوات المعتبرة لاغيةً les bulletins déclarés nuls طبقا للشروط المحددة في المادة 31 من المرسوم المذكور ، وعددَ البطاقات البيضاء les bulletins blancs ou neutres ".
لم يزد الأستاذ ببوط على أن أضافَ على الفقرة الأخيرة من هذه المادة عبارة " وعددَ البطاقات البيضاء " عاطفا على البطاقات اللاغية، و بذلك أنقذَ الموقف.
قال لي الأستاذ ببوط لاحقا لم آتِ بذلك الاجتهاد من فراغٍ وإنما هو تطبيق سائد في بعض الدول الافريقية.وأذكر بأن هذا المرسوم لا يزال نافذا حتى كتابة هذه الأسط .
وما دمنا بصدد الحديث عن البطاقة البيضاء، أذكر حالتيْن صادفتهما تتعلقان بهذا الموضوع .
أما الأولى فهْيَ أنني عندما عيّنتُ في نهاية 2012 م مديرا للعمليات الانتخابية واللوجستيك في اللجنة الوطنية المستقلة للانتخابات المكلفة بالتنظيم بدل الإشراف كان على الهيئة أن تنظم في الفصل الأخير من سنة 2013 أربع اقتراعات متزامنة هي : الانتخابات البلدية ، وانتخاب النواب في الجمعية الوطنية في كل من المقاطعات الداخلية، و لائحة انواكشوط الوحيدة ، واللائحة الوطنية، و اللائحة الوطنية للنساء وبالنسبة للائحتيْن الأخيرتين يقتضي القانون تنظيم الاقتراع في الخارج.وبصعوبة بالغة تم تنظيم الانتخابات على بركة الله. وبدأتْ النتائج تتوارد على إدارة الملف الانتخابي و المعلوماتية فتتم معالجتها عبر برامج معلوماتية محكمة و من هنالك تأخذ طريقها إلى وسائل الاعلام عبر سلسلة من المراجعات.و هنالك بلديات محددة كانت السبّاقة إلى البثّ عبر الأثير ومنها واد الناگه التي بادر الطاقمُ المشرفُ فيها على الحملة الانتخابية في أحد الأحزاب فاتصل بي مُعترِضاً على النتائج المنشورة. وبسُرعةٍ اكتشفتُ أن النتائج مغلوطة فعلا و اهتديتُ إلى الخلل تلقائيا.و نزلتُ كالبرق الخاطف إلى زميلي المدير المعني وهو من ذوي الاختصاص الدولي في مجاله ، و أوصدتُ علينا باب مكتبه بإحكام وهمستُ في أذنه قائلا : "يبدو أن أجهزة الكمبيوتر المستخدمة لديكم حاليا في مركزة النتائج و معالجتها ، والتي تم استلامها مؤخرا من وزارة الداخلية، لا تزال تحتفظ خطأً بالبرنامج المعلوماتي الخاص بالانتخابات الرئاسية 2009 ،الذي يحتسب البطاقةَ البيضاءَ المجسدةَ لخيار الحياد، صوتاً لاغياً خلافا لبقية الانتخابات .و بطبيعة الحال لم يجد المدير كبيرَ عَناءٍ في استيعاب الموضوع ،و سارع إلى تغيير البرنامج وتصحيح النتائج .
وقد أوحتْ إليَّ هذه الحادثة العابرة باتخاذ مبادرة بإنشاء جهاز يزاوج بين استقبال النتائج بصورة موازية للادارة المعنية و استقبال التظلمات لتصحيح الاخطاء المحتملة على ضوء المحاضر المُعدة على مستوى مكاتب الاقتراع والتي عادة ما تصل متأخرة بعض الشيء.ولكن هذه الخدمة تتوقف تلقائيا بمجرد إعلان النتائج من قبل اللجنة الانتخابية لان المسؤولية عن الشكاوى، ابتداءً من تاريخ ذلك الاعلان تصبح تلقائيا من صريح صلاحيات قاضي الانتخابات أي المجلس الدستوري أو المحكمة العليا.
وأما الحالة الثانية فهي كالتالي: التحقتُ باللجنة في سبتمبر 2012 وغادرتها في نهاية 2015 ولم تزلْ تبعات البطاقة البيضاء تلاحقني أينما حللتُ وحيثما ارتحلتُ ، فأزيلُ اللبس هنا ، و أرفع الاشكال هناك وفي كل الحالات يتعلق الامر بالخلط الذي يقع فيه البعضُ - من المختصين في بعض الاحيان - عند التعامل مع البطاقة البيضاء ابّان احتساب النتائج في مختلف الاستحقاقات .ومن غريب ما صادفته في هذا المجال أن أحد الوكلاء الانتخابيين agents électoraux وهي فئة من المعاونين عادةً ما تكتتبهم اللجنة الانتخابية لمدة محدودة جدا في فترة الانتخابات (ومنهم رؤساء وأعضاء مكاتب التصويت )، عرض علي مرة إشكالا غريبا على النحو التالي : قال لي " أنا مشرف على مجموعة من الكتاب agents de saisie ينحصر عملهم في إدخال نتائج محاضر المكاتب الانتخابية الرقمية على
أساسِ النتائج التي توصلت بها الادارة تباعا بالنسبة لانتخاب النواب في برنامج معلوماتي خاص يتضمن تفصيلا بين مختلف المعطيات مثل عدد الأصوات الصحيحة وتوزيعها على المترشحين ، وعدد البطاقات البيضاء، و عدد الأصوات اللاغية.وخلال مراجعتي لعمل هؤلاء ، فوجئتُ بأن بعض هؤلاء حريصٌ على أن ينقل عدد الأصوات البيضاء من كل محضر و يضيفها إلى الأصوات الممنوحة لحزبٍ معينٍ من الأحزاب المترشحة في ذات المحضر ، و في كل مرة يضع صفراً صريحا في مكان الرقم المنقول " !
و هنا أعترفُ بأنني فوجئتُ بدقة هذه العملية التي لا يمكن أن تصدر إلا عن المختصين وبتنسيق كاد أن يكون مُحكَما لو لم يُغْفِل مُبتدعُهُ حلقة المشرف، من السلسلة التي تمالأَ معها أصلاً.طبعا ما زدتُ على أن قلتُ للسائل أن يخبر الخبراء من المهندسين المسؤولين في الادارة ليحصن نفسه من الانعكاسات السلبية المُحتملة لهذا الأمر الغريب ، دون أن أخوض في التفاصيل. وعاد إليَّ المعني بعد أيام ليخبرني أنه امتثل نصيحتي وأن النتيجة كانت أن بادر المدير المسؤول إلى تحقيق دقيق قاده إلى التأكد من صحة الموضوع و عمد إلى تسريح جميع المعاونين و استبدالهم بآخرين و إعادة التسجيل من بدايته حتى نهايته ولكنّ ذلك قد أدّى إلى تأخر إعلان النتائج . قلت له خيراً فعلت وحسنا فعل المدير . وللتوضيح أقول إن هذه العملية كانتْ ستسفرُ عن النتائج التالية : ستنضافُ إلى أصواتِ المترشحين من الحزب المستفيد في جميع الدوائر الانتخابية ، أصواتٌ غيرُ مستحقة بعددِ الأصوات المعبر عنها، وقد لاَ يتنبهُ إلى ذلك أيّ من الأحزاب المنافسة نظرا إلى أن الاصوات التي حصلوا عليها لم تتأثر قيدَ أنمُلَةٍ بالعملية .
وعند هذا الحد أكتفي ، والله وليُّ التوفيق .