أي إصلاح تربوي يمكن إنجازه لفائدة موريتانيا في المنظور القريب ؟ / د.محمد الراظي بن صدفن
لا يخفى علينا جميعا أن الهدف الرئيسى من أي إصلاح للمنظومة التربوية هو بدون شك السعي الى تحديث مناهجها و محتوياتها لتتلائم مع متطلبات أي دولة بعد الإعتراف بذلك و تحديد أوجه الخلل من أجل تحسينها أو تصحيحها .
و عملية الإصلاح تلك التي تتم في الغالب بدوافع سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية أو هما معا يجب أن تأخذ بعين الإعتبار التشريعات الخاصة بكل دولة ، و نظرا لأهميتها في وضع مستقبل الأجيال لابد أن تكون تدريجية و توافقية .
في هذا السياق ، فقد عرفت الدولة الموريتانية منذ الإستقلال الى اليوم جملة من الإصلاحات التربوية بدءا بإصلاح ١٩٦٧ و ١٩٧٣ مرورا بإصلاح ١٩٧٩ و إنتهاءا بإصلاح ١٩٩٩ م .
و قد أكدت كل هذه الإصلاحات على ضرورة زيادة المنشآت التربوية بواسطة بناء و تشييد المدارس و إقامة مؤسسات التكوين ، و تفعيل الرقابة و التأطير التربوي على مختلف مستويات التعليم إضافة لدعم القدرات فى مجال الحكامة و المقاربات البيداغوجية الملائمة للرفع من الآداء و إمتلاك ناصية التكنولوجيا و التقنيات الجديدة للإعلام و الإتصال و تحسين أوضاع المعلمين و جعلهم في الظروف المناسبة التي تمكنهم من آداء رسالتهم على الوجه الأكمل .
و على الرغم من أن هذه الإصلاحات التي جاءت مكملة لبعضها البعض حظيت بإجماع غالبية الموريتانيين و صرف عليها الكثير من موارد الدولة ، فإنها للأسف الشديد لم تعط النتائج المرجوة منها و خاصة بالنسبة لإصلاح ١٩٩٩ ، نظرا للإختلالات الواضحة التي شابت تنفيذه .
و هذه الإختلالات نجملها في ما يلي:
أولا: عدم إتخاذ إجرائات مصاحبة من أجل التأكد من سلامة تنفيذ الإصلاح .
ثانيا : غياب شبه تام للمتابعة و التقييم خلال المرحلة التجريبية للإصلاح .
ثالثا: عدم إنخراط أساتذة الشعب العلمية بما فيه الكافية للتعاطي مع روح و أهداف هذا الإصلاح ، رغم كونهم هم الفاعلون الرئيسيون فيه .
رابعا: غياب نظام للتخطيط واضح المعالم و متفق عليه خلال الفترة التي استغرقها تطبيق توصيات الإصلاح .
خامسا : ضعف إستيعاب المعلمين و المدرسين في مختلف مستويات التعليم الأساسي و الثانوي لمقاربة الكفايات مما حال دون تطبيقها علي الوجه الأكمل في جميع المؤسسات التربوية و أربك إلى حد ما المشهد التربوي بشكل عام .
سادسا : النقص الحاد في الكفاءات الضرورية لتدريس اللغة الفرنسية الذي حال دون تحقيق هدف الإزدواجية المعلنة كشعار لهذا الإصلاح الخاص بإقامة نظام تربوي موحد .
سابعا : وجود مشاكل تتعلق بالحكامة و القيادة لم يتم التغلب عليها بالصفة المطلوبة .
ثامنا : عدم تجهيز المختبرات في المؤسسات التربوية بالأدوات الفنية اللازمة و غياب تدريس المعلوماتيه الذي كان مقررا .
إذن بسبب هذا الوضع جاءت نتائج هذا الإصلاح دون التوقعات و مخيبة للآمال .
ذلك أن المخرجات الناجمة عنه أظهرت بصفة عامة تدني كبير في المستويات و طرحت بشكل غير مسبوق إشكالية ما بات يعرف بالحواجز اللغوية .
و قد بدى ذلك جليا من خلال فحص القدرات اللغوية للتلاميذ الحاصلين على الباكالوريا الذين التحقوا بمؤسسات التعليم العالي خلال العقدين الماضيين حيث تأكد أنهم بحاجة ماسة الى تقوية مركزة في اللغتين الفرنسية و العربية على حد سواء و يفتقرون الى الرصيد المعرفي اللازم للتدرج في كسب المعارف و المهارات المطلوبة .
لهذه الإعتبارات و غيرها نرجو أن يستفيد الإصلاح الجديد ، التي تعكف الحكومة حاليا على توسيع التشاور حوله مع كل الفاعلين المعنيين ، من أخطاء التجارب الماضية و التركيز على القضايا الجوهرية ذات الأولوية و التي يمكن إنجازها في المنظور القريب تمشيا مع تعهدات رئيس الجمهورية و مراعاة للثوابت الوطنية المتعلقة بوحدة البلاد و تنميتها .
في هذا الصدد فإننا نتقدم بالملاحظات و التوصيات التالية:
أولا : أن إصلاح ١٩٩٩ جاء لتصحيح أخطاء إصلاح ١٩٧٩ من خلال إرساء نظام تربوي يكرس ازدواجية في اللغتين العربية و الفرنسية يضمن تعميم التعريب و ولوج الدارسين في مجال العلوم الدقيقة الى إعتماد إحدى اللغات المتقدمة
المنفتحة على البحث العلمي.
و هو ليس سيئا بالمطلق و لكن المشكلة تكمن في عدم تطبيقه على الوجه الذي أريد له .
ثانيا : الشروع الفوري في تأهيل و دعم قدرات الطاقم التربوي و التعليمي لأن حوالي ٩٤٪ من مدرسي التعليم القاعدي غير مؤهلين للتدريس إطلاقا. و يجب إخضاع الجميع لعملية تقييم تربوية شاملة ؛
ثالثا: الإسراع بوتيرة إنجاز البنى التحتية التي تم إقرارها ضمن البرنامج الإنتخابي لرئيس الجمهورية
رابعا: عقلنة الخريطة المدرسية و وضع حد لكل أشكال التأثير التي تؤدي إلى فوضويتها ؛
خامسا : وضع آليات جديدة للتدريب و التكوين و تحسين الخبرات يمكن أن تستفيد منها كافة الطواقم التربوية و الإدارية ؛
سادسا : إنشاء كلية جديدة للتربية بهدف توفير الكادر البشري المؤهل للقيام بمهمة التدريس و تلبية حاجيات وزارة التهذيب و الإصلاح في مجال الإكتتاب ؛
سابعا : تقنين العلاقة مع التعليم الخصوصي و تحديد شروط و دفتر الإلتزامات بالنسبة للمؤسسات التربوية العاملة في هذا المجال ، بعد القيام بتقييم أدائها و تصنيفها ؛
ثامنا : تحسين الظروف المادية للمعلمين عبر زيادة معتبرة في رواتبهم ؛
تاسعا : تطبيق حكامة صارمة و فاعلة من خلال التسيير المحكم للموارد البشرية و اللوجستيكية و المالية ؛
عاشرا : تعميم الكفالات المدرسية على امتداد التراب الوطني و فرض الزي الموحد للتلاميذ و العمل من جديد بنظام الحضانة عبر إعاشة التلاميذ و إسكانهم ، و يمكن القيام بهذه التجربة في مؤسسات تربوية نموذجية و تعميمها لاحقا ؛
إحدى عشر : إعتماد سنة لغة بالنسبة لحملة شهادات الباكالوريا الراغبين في ذلك .
أما فيما يتعلق باللغات الوطنية على الرغم من أن القانون ٠٩٩-٠١٢ الصادر بتاريخ ٢٦ ابريل ١٩٩٩م قد أسند ترقيتها إلى قسم اللغات الوطنية بكلية الآداب (جامعة انواكشوط) و الذي تم تأسيسه لهذا الغرض فإن ذلك الهدف لم يتحقق نتيجة لمعوقات كثيرة في مقدمتها :
⁃ الإقبال الضعيف للطلبة على هذه الشعبة
⁃ محدودية الموارد المخصصة لها
⁃ نقص في الطاقم التأطيري
⁃ توقف البحوث حول الأبعاد اللسانية لهذه اللغات و طرق كتابتها .
في هذا الإطار و من أجل الإسهام في حل هذا المشكل فإننا نتقدم بالمقترحات التالية :
⁃ البدء أولا بترسيم اللغة البولارية الأكثر استخداما من الناحية الديموغرافية بعد "اللغة العربية ” و إدماج تدريسها في المقررات الدراسية على مستوى التعليم ما قبل المدرسي و الأساسي و إنشاء مراكز ثقافية لترقية بقية اللغات الأخرى
⁃ جعل معيار معرفة اللغات الوطنية عاملا مرجحا في الولوج الى الوظائف العليا في الدولة ، و في التزكية للترشح للمناصب الإنتخابية و في المسابقات الوطنية ؛
⁃ تحويل قسم اللغات الوطنية بجامعة انواكشوط إلى مختبر علمي للدراسات و البحوث في اللغات الوطنية و مده بالوسائل الضرورية لتأدية مهامه على الوجه الأكمل .
و رغم قناعتنا الراسخة بأن اللغة العربية هي لغة البلاد الرسمية الوحيدة القادرة على توحيدها لإعتبارات عديدة دينية و مذهبية ، فإن الإنفتاح على اللغات العالمية الأخرى هو ضرورة تمليها متطلبات البلاد التنموية و مصالحها الإستيراتيجية و الحيوية .
ذلك أن أي إصلاح للمنظومة التربوية لا يمكن أن يقتصر فقط على الجوانب المهنية في التكوين بل إكتساب المزيد من التحصيل المعرفي و المهارات العلمية من خلال استخدام العديد من اللغات مثل ( الإنكليزية و الفرنسية و الصينية و الألمانية ... و غيرها )
و يبقى نجاح الإصلاح الجديد مرهون بمدى تناغمه مع المشروع المجتمعي لرئيس الجمهورية السيد محمد ولد الشيخ الغزواني الذي يرى أن التركيز على التعليم هو عماد تحقيق التنمية و السبيل الوحيد للإرتقاء الإقتصادى و الإجتماعى و ضمانة لتحصين الفرد و المجتمع من آفة الجهل و الفقر و من نزاعات التطرف و الانغلاق .
فهل نغتنم هذه الفرصة قبل فوات الأوان ؟