موريتانيا.. وطنٌ واحد يتجاوز الذاكرة الجريحة/ سيدي ولد النمين

يُشكّل التنوع العِرقي والثقافي في موريتانيا لبنةً أساسية في كيان الدولة والمجتمع، لا مجرد مكوّن اجتماعي ثانوي أو معطى ديموغرافي محايد. فهذا التنوع، الذي انصهرت فيه روافد عربية وأمازيغية وزنجية إفريقية، أسّس عبر القرون لنموذج فريد من التعايش الإنساني على تخوم الصحراء الكبرى، وفتح آفاقاً رحبة أمام التثاقف والتبادل والتكامل. غير أنّ هذا الرصيد الحضاري ما يزال بحاجة ماسّة إلى مقاربة رشيدة تُحوِّله من طاقة كامنة إلى مشروع وطني جامع، يُحصِّن المجتمع من الشحناء ويقيه منزلقات التباغض وإعادة إنتاج جراح الماضي.
وفي ظل ما تشهده بعض المنصّات الإعلامية والفضاءات الرقمية من توترات واصطفافات، تطفو على السطح أسئلة ملحّة: لماذا يعود الخطاب التحريضي اليوم تحديداً لاستحضار أحداثٍ موجعة عاشتها البلاد أواخر الثمانينيات ومطلع التسعينيات؟
وما الدافع وراء إثارة تلك المآسي في مرحلة تحتاج فيها البلاد إلى التماسك أكثر من حاجتها إلى إعادة فتح الجراح؟ ثم هل الغرض من استحضار تلك الوقائع تأسيس مصالحة وطنية صادقة، أم توظيف الذاكرة في خدمة أجندات ضيقة تعيق كل جهد لبناء مستقبل متوازن؟
إن طرح هذه التساؤلات ليس من باب إنكار المظالم أو الدعوة إلى طمس الحقائق، بل هو تأكيد أن المصالحة لا تُبنى على تحويل الذاكرة إلى معوِّل هدم، بل على تحويلها إلى أداة للفهم والنضج التاريخي.
شهدت هذه الأرض منذ قرون طويلة تفاعلاً عميقاً بين مجموعاتها المتنوعة. فقد كانت مدن مثل شنقيط وولاتة وتيشيت محاضنَ للعلم والتجارة، احتضنت مختلف الأعراق وتبادلت فيما بينها اللغات والمعارف. وأسهمت الأعراف المحلية وروابط العلم والطرق الصوفية في بناء منظومة اجتماعية تحتفي بالسلم والعدالة، وتقدّم نموذجاً للتسامح قلّ نظيره.
هذا التاريخ ليس مجرد سرد تراثي، بل هو برهان على قدرة المجتمع الموريتاني على تجاوز الخلافات وطبع هويته الجامعة بمرور الزمن.
وليس المجتمع الموريتاني بِدعاً من الأمم التي واجهت امتحانات عصيبة، فالتاريخ الإنساني زاخر بتجارب أصبحت نماذج عالمية في المصالحة الوطنية، وقد قامت هذه النماذج على ركائز واضحة:
1. الاعتراف الصريح بالماضي دون تشهير أو انتقاء،
2. فتح حوار وطني شامل لا يُقصي أحداً،
3. إرساء آليات للإنصاف وجبر الضرر،
4. بناء سردية وطنية مشتركة تتجاوز الذاكرات المتوازية.
إن استلهام هذه التجارب، مع مراعاة خصوصية السياق الموريتاني، يمكن أن يشكّل دعامة قوية لنهج وطني متزن يستوعب الجميع.
وفي هذا السياق، تمثّل الدعوة الصريحة التي أطلقها فخامة رئيس الجمهورية إلى حوار وطني لا يستثني موضوعاً ولا يُقصي طرفاً فرصةً تاريخية نادرة. فهي دعوة إلى بناء جسرٍ حقيقي بين مكوّنات الشعب، وإلى تحويل التوترات الآنية إلى طاقة نقاش بنّاء، وإرساء مناخ سياسي يُتيح معالجة الماضي بروح مسؤولة بدل المزايدة والانقسام.
وتقع على عاتق النخب الفكرية والسياسية، ومنظمات المجتمع المدني، ووسائل الإعلام، مسؤولية جوهرية في تحويل هذه الدعوة إلى مسار فعلي يفضي إلى توافق وطني راسخ.
إن موريتانيا تمتلك من الرصيد الحضاري والثقافي ما يجعلها مؤهلة لتأسيس نموذج متقدم في إدارة التنوع. والمستقبل لا يُصاغ بالعودة إلى جراح الأمس، بل بتجفيف منابع الشحناء، واستنهاض قيم المواطنة، وتثمين المشتركات الجامعة.
وإذا ما أحسنّا استثمار هذا التنوع وحمّلناه مشروعاً وطنياً واعياً، فإنّ موريتانيا لن تكون مجرد فسيفساء اجتماعية متجاورة، بل نسيجاً موحداً يتقدم بثقة نحو الغد.
