آفاق العمل الحكومي ؛ قراءة فى الرهانات والأولويات!../ د.محمد ولد عابدين
مثل الوزير الأول أمام البرلمان ، وقدم تقريره السنوي الذى اشتمل على "حصيلة وآفاق تنفيذ بيان السياسة العامة للحكومة : 2022- 2021".
ويعد ذلك تقليدا دستوريا من ثوابت وأدبيات ديمقراطيتنا الفتية ، وهو مايشكل سانحة طيبة للتلاقى والتفاعل بين السلطتين التنفيذية والتشريعية ، بغية النقاش البناء والتقويم الجاد لاستراتيجيات العمل الحكومي فى ضوء السياسات والأولويات والرهانات والتطلعات ، وهي سانحة طيبة لإطلاع الرأي العام الوطني من طرف الحكومة على ماتم تنفيذه من " التعهدات " خلال النصف المنصرم من مأمورية رئيس الجمهورية ، وماتعتزم مباشرة إنجازه خلال السنة الأولى من نصفها المتبقى فى ظل أجندة سياسية واقتصادية ضاغطة ومشحونة بالتحديات والاستحقاقات.
ولامراء فى أن الظرفية تتسم بجملة من الخصوصيات الإيجابية وعوامل القوة القادرة على الدفع بالبلد إلى آفاق رحبة من التنمية والازدهار ، وفى مقدمتها ماتتسم به المرحلة من خصوصية فى نمط الحكامة وانفتاح يتخذ من الحكمة والحنكة أسلوبا ، ومن الرزانة والرصانة منهجا ومقاربة فى التعاطي مع الشأن العام ، وقد ترتب على ذلك غياب وجود أزمة سياسية ، واختفت نهائيا من المشهد لغة الاستقطاب وخطاب الاحتراب ، بيد أن ثمة تحديات كبيرة في مجالات أخرى ؛ اقتصادية واجتماعية ، ولعل فى مقدمتها تحدى الجائحة الصحية التى ضربت الاقتصادات العالمية ، وعمقت أزمة الغلاء وصعوبة الحالة المعيشية ، فضلا عن التحديات التنموية والأمنية والمخاطر الجيو- استراتيجية المحدقة الناجمة عن بعض حالات التوتر فى الجوار الإقليمي جنوبا وشمالا.
وعموما فإن الحصيلة حافلة بالمكاسب والإنجازات وواعدة بالآفاق والتطلعات ؛ قياسا إلى ما واجهته الحكومة من رهانات وتحديات ، وسأحاول فى هذه العجالة أن أقدم جملة من العناوين والمقترحات ؛ أراها فى مقدمة استحقاقات وأولويات العمل الحكومي التى ينبغى التركيز عليها فى مستهل النصف الثاني من مأمورية رئيس الجمهورية :
1- التعجيل برعاية تنظيم تشاور وطني شامل يثمر خارطة طريق ناجزة وأجندة توافقية جاهزة ؛ مستجيبة لمطالب وتطلعات فرقاء المشهد السياسي إلى خلق إجماع وطني وصياغة " عقد جمهوري " قادر على بناء نظام ديمقراطي صلب وقوي ؛ فاللحظة تاريخية من أجل تجذير خيار النهج الديمقراطي الحضاري ، وتحتاج فقط إلى نخبة وطنية تقود تحولا مجتمعيا ، وتصوغ مشروعا توافقيا لتحديث البلد وتنميته وتقوية حكامته السياسية وبناء قدراته الاقتصادية الذاتية وتعزيز وحدته الوطنية وتماسك لحمته الاجتماعية.
2 - وضع وتنفيذ استراتيجات جادة وفعالة لمحاربة الفقر المدقع ، وتعزيز نهج التكفل بالمعوزين للتخفيف من وطأة الفاقة والبؤس الاجتماعي ؛ ويتعين فى هذا السياق مراجعة برامج وسياسات " تآزر " وتفعيلها وتنويعها لتصبح آلياتها أكثر نجاعة وسرعة فى دعم ومؤازرة الفئات الهشة والمغبونة ، مع التنويه والإشادة بالنتائج والمكاسب الطيبة المتحققة على مستوى السياسات الاجتماعية ومحاربة الفقر فى النصف الأول من المأمورية.
3 - تعزيز المقاربة الأمنية ورفع مستوى الكفاءة والجاهزية لدى القوات المسلحة والأجهزة الأمنية الوطنية ؛ من أجل مواصلة التصدى الحاسم للجريمة داخليا ، ومواجهة التحدى الخارجي الناجم عن الأوضاع الإقليمية المضطربة فى شبه المنطقة بحزم ويقظة وفاعلية ، فبلدنا -ولله الحمد- ينعم بالأمن والاستقرار فى منطقة يجتاحها الغلو والإرهاب والتهريب والجريمة المنظمة والهجرة السرية...وغيرها من المخاطر والتحديات الأمنية المزمنة.
4 - التأسيس لمرحلة جديدة من محاربة الفساد بلا هوادة ، فمهما كانت وتيرة التطوير والبناء وحجم مشاريع الإعمار ؛ فلاتنمية فى ظل غياب قيم الحكامة الجيدة وحسن التسيير ؛ ومعاول الهدم أسرع وأمضى من أدوات البناء ، فلامندوحة عن القطيعة النهائية مع ممارسات الفساد والزبونية والمحسوبية ، وشن حرب غير تقليدية على كل مظاهرالفساد وأشكاله المقنعة ؛ من خلال انتهاج استراتيجية وقائية استباقية في هذا السياق ، تنطلق من تفعيل أجهزة الرقابة ومتابعتها ، وتكثيف بعثات التفتيش ومضاعفتها ، فضلا عن ضرورة اتباع مقاربة جديدة فى التعيينات ؛ عمادها تكليف الأطر الأكفاء الذين هم " مظنة للإصلاح " وإقصاء أو إعفاء " أصحاب السوابق " فى سوء التسيير ونهب المال العام.
- إطلاق نهج جديد فى الحكامة ؛ مؤسس على المصالحة مع الشباب وقائم على إشراكه فى التسيير وإدارة الشأن العام وصناعة القرار والتخطيط والاستشراف ؛ تحريرا لطاقاته المعطلة وتثمينا لكفاءاته المهمشة ؛ فالبلد بحاجة إلى طموح الشباب المندفع نحو التغيير ورغبته الجامحة فى جودة الحكامة وحسن التسيير.
6 - ضخ دماء جديدة فى الجهاز الحكومي والإداري تتمتع بكفاءة عالية ونزاهة مهنية ، متشبعة بقيم الحكامة الجيدة ومستلهمة لمبادئ التسيير المسؤول الشفاف الذى يضمن مصداقية وفعالية ونجاعة أداء المرفق العمومي ، ويكفل ترجمة السياسات والاستراتيجيات الحكومية إلى مشاريع وبرامج ميدانية ملموسة ؛ تستجيب لأفق انتظار المواطن المتشوف والمتعطش لتلبية حاجاته الخدمية الآنية وتطلعاته التنموية المستقبلية.
7 - وضع رؤية شاملة لتطوير الإدارة وتحديثها ورقمننها ؛ وتقريب خدماتها من المواطنين والقضاء على البيروقراطية والفساد الإداري والزبونية ، وتجذير قيم المواطنة وتحرير الموظف العمومي من ربقة الانتماءات الضيقة السياسية و الحزبية والاجتماعية والجهوية والعرقية والقبلية ، وتكريس ولائه المطلق لمصلحة الوطن وخدمة المواطن.
8 - تكثيف ومضاعفة الجهود الحكومية المبذولة ؛ من أجل مواكبة ودعم المواطنين من المحتاجين والفئات الهشة ومحدودى الدخل باستحداث جملة من البرامج والمشاريع وخلق الفرص المدرة للدخل ، وتفعيل سياسات التشغيل لضمان تحسين الظروف المعيشية للمواطنين وتحقيق الأمن الغذائي ، والعمل على الحد من إشكالية ارتفاع الأسعار ؛ عن طريق تسريع وتفعيل صلاحيات الآلية الوطنية المستحدثة لهذا الغرض.
9 - ضرورة إصلاح قطاع الصحافة والتأسيس لخطاب إعلامي جامع ؛ قادر على التعبير عن نبض المجتمع ، مساهم فى صناعة وتشكيل الوعي ، منسجم مع أهداف وأولويات التنمية البشرية ، مستجيب للرهانات المهنية والمؤسسية ؛ من خلال تنفيذ رؤية إصلاحية جديدة للحقل ؛ تسهم فى التمهين والتمكين لقيم العمل الصحفي الناضج ، وترسيخ وتجذير خيار الحرية والتعددية المقترن برهانات الوعي والمهنية والمسؤولية.
10 - العمل على تنفيذ حزمة مشاريع هيكلية ذات أبعاد ورهانات استراتيجية مستقبلية ، تسهم في جلب استثمارات معتبرة وإقامة مشاريع عملاقة وخلق فرص تشغيل مباشرة ؛ عبر قطاعات ديناميكية متعددة وآفاق اقتصادية واعدة ، تراعى الحاجات التنموية والخصوصيات المحلية للاقتصاد الريفي ، وتسعى فى الوقت ذاته إلى تطوير وعصرنة البنى التحتية وتعزيز وتوسعة المنشآت الخدمية الضرورية فى مجالات التعليم والصحة والمياه والطاقة والزراعة ، مع ضرورة تعميق الاستفادة من قطاع الثروة الحيوانية ؛ العمود الفقري للاقتصاد الريفي.
وختاما تبدو آفاق العمل الحكومي واعدة ، وهي مصممة طبقا لرؤية استشرافية عميقة ، وتشتغل وفق مقاربات مستقبلية ، قد لا تجنى فوائدها أوتقطف ثمارها بين عشية وضحاها ، غير أن جملة من المشاريع الهامة سيتم انطلاقها ، لتتواصل المسيرة بخطى واثقة ورصينة ومتدرجة على درب التنمية والازدهار ، انطلاقا من نظرة استراتيجية عميقة وخطة تنموية محكمة تنتهجها السلطات العليا ، مستعينة بالله العلي القدير ، ومتسلحة بالإرادة السياسية الصارمة والصادقة فى سبيل النهوض بهذا الوطن الحبيب ، وجعله فضاء للإنجاز وحاضنة للتنمية.
د.محمد ولد عابدين
أستاذ جامعي وكاتب صحفي.