العسكر و التحول السياسي في العالم العربي / السيد ولد إباه
مذكراته الصادرة مؤخراً بعنوان «الملحمة»، يقدم لنا عبد السلام جلود، الرجل الثاني في نظام العقيد القذافي، عرضاً مثيراً حول ظروف انقلاب سبتمبر 1969، وحول تجربة العهد «الجماهيري» في سياقه المحلي والعربي.
ليس من المهم متابعة جلود في سرده للأحداث التي ليس فيها الجديد النوعي، وإنما أهمية المذكرات هي تقديمها شهادةً حيةً على تجربة هامة من تجارب وصول العسكر إلى الحكم عن طريق الانقلابات الثورية.
ما يزال موضوع نشأة وتطور الأنظمة العسكرية العربية مطروحاً للدراسة والنقاش، بعد مرور ما يزيد على سبعين عاماً على أول انقلاب عرفه العالَمُ العربي وهو انقلاب حسني الزعيم في سوريا في مارس 1949، والذي تلاه انقلاب ثان في العام ذاته.
ولقد عرفت سوريا انقلاباتٍ عسكريةً متتاليةً، كان آخرها التمرد الذي قاده حافظ الأسد في سنة 1970، كما شهد العراق انقلابين محوريين: في عام 1958 مع عبد الكريم قاسم الذي قضى على النظام الملكي، وفي عام 1963 مع التحالف الناصري البعثي الذي أفضى إلى تحكم حزب البعث في الحياة السياسية عقوداً طويلة.
ولا شك أن أهم هذه الانقلابات في المرجعية الأيديولوجية العربية هو «ثورة 23 يوليو 1952» التي قادها جمال عبد الناصر، وتحولت من بعد إلى نموذج للحركات الانقلابية العسكرية العربية: في اليمن عام 1962 وفي الجزائر عام 1965 وفي ليبيا والسودان عام 1969. لقد جرت الحركات الانقلابية العسكرية في العالم العربي في سياق ثلاثي السمات: - عسكرة الحياة السياسية العربية المتنامية الناتجة عن عاملين مترابطين هما: تحول مؤسسة الجيش إلى إطار لاستقطاب واستيعاب الطبقات الوسطى والدنيا التي كان دورها محدوداً في تركيبة السلطة خلال العهود السابقة، واعتماد الأحزاب القومية واليسارية المقصية من دائرة الشرعية السياسية المنظورَ الانقلابيَّ ونمطَ التنظيم الميليشياتي أسلوباً للعمل النضالي والتنظيم الحركي.
- بروز مقاربة اجتماعية فكرية تنيط بالمؤسسة العسكرية دورَ التغيير الثوري البنيوي في مجتمعات هشة البناء الطبقي وضعيفة الوعي الوطني، ومن ثم فكرة تحالف الضابط والمثقف التي دافع عنها عدد من المثقفين العرب في تلك المرحلة (أنور عبد الملك، غالي شكري، إلياس فرح.. إلخ). - انبثاق الموضوع الفلسطيني في الأجندة الإقليمية العربية، وما واكبه من دور متصاعد للجيوش في الحروب العربية الإسرائيلية.
لقد عرفت منطقتا أميركا اللاتينية وأفريقيا جنوب الصحراء موجةً مماثلةً من الانقلابات العسكرية في الفترة ذاتها، وفي كثير من الأحيان كان التناغم قوياً بين الأنظمة العسكرية الثورية في البلاد العربية وفي الإقليمين المذكورين، إلا أن الفرق الأساس بين هذه التجارب الثلاث هو طغيان نمط حركات التمرد بدل المؤسسة العسكرية المنظمة في أمريكا الجنوبية وضلوع الأيادي الأوروبية (الفرنسية خصوصاً) في الانقلابات العسكرية الأفريقية.
ما جرى في محيطنا الإقليمي هو تحول الأنظمة العسكرية إلى الطابع الغالب على الجمهوريات العربية التي غدت تحكمها أنظمة تسلطية تقوم على ثنائية الجيش- الحزب الواحد المهيمن.
ومع أن بعض الباحثين في العلوم السياسية اعتبر أن الجمهوريات العربية مرت بتحول تدريجي من أنظمة عسكرية تقليدية إلى أنظمة تسلطية أحادية ليس للجيش أي دور حاسم في مسار صنع القرار فيها، فإن آليات التكيف الإجرائي التي اتبعتها أغلب الأنظمة العسكرية منذ نهاية الثمانينيات لم تغير نوعياً طبيعة هذه الأنظمة، وإن أدخلت في صلب آليات النسق السياسي مقاييسَ التعددية التنافسية الشكلية أو التجميلية.لقد مرت جل الدول العربية التي حكمتها أنظمة عسكرية بانتفاضات داخلية (بتدخل خارجي أحياناً) قوَّضت النموذجَ القائم، وفي غالب الأحيان انحازت المؤسسة العسكرية لمطلب التغيير وتخلت عن القيادات الحاكمة التي كانت في السابق تنتمي إليها.
لقد تحول الدور السياسي للجيش من القوة الثورية المهيمنة إلى السلطة الانتقالية الراعية لعملية التحول المؤسسي والدستوري، بما نلمسه اليوم في الساحة السودانية التي تعيش بحدة مصاعب التغيير والانتقال. أما في البلدان التي انهارت فيها المؤسسة العسكرية، كما هو شأن العراق وليبيا واليمن، فإن عملية البناء السياسي تصطدم بحالة الفتنة الأهلية والتحلل المجتمعي، بما يدل على الحاجة الموضوعية للجيش في تأمين ديناميكية الانتقال السياسي.
قبل شهور، كنت أتحدث مع إحدى الزعامات السياسية الليبية الجديدة، وقد تطرق الحوار إلى مصاعب الحل السياسي التي من أخطرها غياب مؤسسة عسكرية مركزية قادرة على القضاء على الميليشيات السياسية المسلحة، وكان رأيها أن الأولوية الكبرى يجب أن تمنح لبناء جيش محترف غير مسيس قبل الشروع في البناء السياسي التوافقي، معتبرةً أن خطأ العقيد القذافي الأول هو أنه دمّر الجيش من خلال الثورة العسكرية التي أوصلته للحكم.
*أكاديمي موريتاني